فصل: تفسير الآيات رقم (34- 37)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 20‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ‏(‏17‏)‏ وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ‏(‏18‏)‏ وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ‏(‏19‏)‏ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق‏}‏ نشتدُّ ونعدو ليتبيَّن أيُّنا أسرع عَدْواً ‏{‏وتركنا يوسف عند متاعنا‏}‏ ثيابنا ‏{‏فأكله الذئب وما أنت بمؤمنٍ لنا‏}‏ بمصدِّق لنا ‏{‏ولو كنَّا صادقين‏}‏ في كلِّ الأشياء لأنَّك اتَّهمتنا في هذه القصَّة‏.‏

‏{‏وجاؤوا على قميصه بدم كذب‏}‏ لأنَّه لم يكن دمه، إنَّما كان دم سخلةٍ ‏{‏قال‏}‏ يعقوب عليه السَّلام‏:‏ ‏{‏بل‏}‏ أَيْ‏:‏ ليس كما تقولون ‏{‏سوَّلت لكم‏}‏ زيَّنت لكم ‏{‏أنفسكم‏}‏ في شأنه ‏{‏أمْراً‏}‏ غير ما تصفون ‏{‏فصبر‏}‏ أَيْ‏:‏ فشأني صبرٌ ‏{‏جميل‏}‏ وهو الذي لا جزع فيه ولا شكوى ‏{‏والله المستعان على ما تصفون‏}‏ أَيْ‏:‏ به أستعين في مكابدة هذا الأمر‏.‏

‏{‏وجاءت سيارة‏}‏ رفقةٌ تسير للسَّفر ‏{‏فأرسلوا واردهم‏}‏ وهو الذي يرد الماء ليستقي للقوم ‏{‏فأدلى دلوه‏}‏ أرسلها في البئر، فَتَشَبَّثَ يوسف عليه السَّلام بالرِّشاء فأخرجه الوارد، فلمَّا رآه ‏{‏قال يا بشرى‏}‏ أَيْ‏:‏ يا فرحتا ‏{‏هذا غلام وأسروه بضاعة‏}‏ أسرَّه الوارد ومَنْ كان معه من التُّجار من غيرهم، وقالوا‏:‏ هذه بضاعةٌ استبضعها بعض أهل الماء ‏{‏والله عليم بما يعملون‏}‏ بيوسف، فلمَّا علم إخوته ذلك أتوهم، وقالوا‏:‏ هذا عبدٌ آبقٌ منَّا، فقالوا لهم‏:‏ فبيعوناه، فباعوه منهم، وذلك قوله‏:‏ ‏{‏وشروه بثمن بخسٍ‏}‏ حرامٍ؛ لأنَّ ثمن الحُرِّ حرامٌ ‏{‏دراهم معدودة‏}‏ باثنين وعشرين درهماً ‏{‏وكانوا‏}‏ يعني‏:‏ إخوته ‏{‏فيه‏}‏ في يوسف ‏{‏من الزاهدين‏}‏ لم يعرفوا موضعه من الله سبحانه وكرامته عليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 26‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏21‏)‏ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏22‏)‏ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ‏(‏23‏)‏ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ ‏(‏24‏)‏ وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏25‏)‏ قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته‏}‏ وهو العزيز صاحب ملك مصر‏:‏ ‏{‏أكرمي مثواه‏}‏ أحسني إليه طول مقامه عندنا ‏{‏عسى أن ينفعنا‏}‏ أَيْ‏:‏ يكفينا- إذا بلغ وفهم الأمور- بعض شؤوننا ‏{‏أو نتخذه ولداً‏}‏ وكان حصوراً لا يولد له‏.‏ ‏{‏وكذلك‏}‏ وكما نجَّيناه من القتل والبئر ‏{‏مكَّنا ليوسف في الأرض‏}‏ يعني‏:‏ أرض مصر حتى بلغ ما بلغ ‏{‏ولنعلمه من تأويل الأحاديث‏}‏ فعلنا ذلك تصديقاً لقوله ‏{‏ويُعلِّمك من تأويل الأحاديث‏}‏ ‏{‏والله غالب على أمره‏}‏ على ما أراد من قضائه، لا يغلبه غالبٌ على أمره، ولا يُبطل إرادته منازعٌ ‏{‏ولكنَّ أكثر الناس‏}‏ هم المشركون ومَنْ لا يؤمن بالقدر ‏{‏لا يعلمون‏}‏ أَنَّ قدرة الله غالبةٌ، ومشيئته نافذةٌ‏.‏

‏{‏ولما بلغ أشده‏}‏ ثلاثين سنةً ‏{‏آتيناه حكماً وعلماً‏}‏ عقلاً وفهماً ‏{‏وكذلك‏}‏ ومثل ما وصفنا من تعليم يوسف ‏{‏نجزي المحسنين‏}‏ الصَّابرين على النَّوائب، كما صبر يوسف عليه السَّلام‏.‏

‏{‏وراودته التي هو في بيتها عن نفسه‏}‏ يعني‏:‏ امرأة العزيز طلبت منه أن يُواقعها ‏{‏وغلقت الأبواب‏}‏ أَيْ‏:‏ أغلقتها ‏{‏وقالت هيت لك‏}‏ أَيْ‏:‏ هلمَّ وتعال ‏{‏قال معاذ الله‏}‏ أعوذ بالله أن أفعل هذا ‏{‏إنه ربي‏}‏ إنَّ الذي اشتراني هو سيِّدي ‏{‏أحسن مثواي‏}‏ أنعم عليَّ بإكرامي، فلا أخونه في حرمته ‏{‏إنه لا يفلح الظالمون‏}‏ لا يسعد الزُّناة‏.‏

‏{‏ولقد همت به وهمَّ بها‏}‏ طمعت فيه وطمع فيها ‏{‏لولا أن رأى برهان ربِّه‏}‏ وهو أنَّه مُثِّل له يعقوب عليه السَّلام عاضَّاً على أصابعه يقول‏:‏ أتعمل عمل الفجَّار، وأنت مكتوبٌ في الأنبياء، فاستحيا منه، وجواب ‏"‏ لولا ‏"‏ محذوف، على معنى‏:‏ لولا أن رأى برهان ربِّه لأمضى ما همَّ به ‏{‏كذلك‏}‏ أَيْ‏:‏ أريناه البرهان ‏{‏لنصرف عنه السوءَ‏}‏ وهو خيانة صاحبه ‏{‏والفحشاء‏}‏ ركوب الفاحشة ‏{‏إنَّه من عبادنا المخلصين‏}‏ الذين أخلصوا دينهم لله سبحانه‏.‏

‏{‏واستبقا الباب‏}‏ وذلك أنَّ يوسف عليه السَّلام لمَّا رأى البرهان قام مُبادراً إلى الباب، واتَّبعته المرأة تبغي التَّشبُّث به، فلم تصل إلاَّ إلى دُبر قميصه، فقدَّته، ووجدا زوج المرأة عند الباب، فحضرها في الوقت كيدٌ، فأوهمت زوجها أنَّ الذي تسمع من العدو والمبادرة إلى الباب كان منها لا من يوسف ف ‏{‏قالت ما جزاء مَنْ أراد بأهلك سوءاً‏}‏ تريد الزِّنا ‏{‏إلاَّ أن يسجن‏}‏ يحبس في الحبس ‏{‏أو عذاب أليم‏}‏ بالضَّرب، فلمَّا قالت ذلك غضب يوسف و‏{‏قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد‏}‏ وحكم حاكمٌ، وبيَّن مبيِّنٌ ‏{‏من أهلها‏}‏ وهو ابنُ عمِّ المرأة، فقال ‏{‏إن كان قميصه قدَّ من قبلٍ فصدقت وهو من الكاذبين‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 33‏]‏

‏{‏وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏27‏)‏ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ‏(‏28‏)‏ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ‏(‏29‏)‏ وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏30‏)‏ فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآَتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ‏(‏31‏)‏ قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ ‏(‏32‏)‏ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏وإن كان قميصه قُدَّ من دبرٍ فكذبت وهو من الصادقين‏}‏‏.‏

‏{‏فلما رأى قميصه قُدَّ من دبرٍ‏}‏ من حكم الشَّاهد وبيانِه ما يُوجب الاستدلال على تمييز الكاذب من الصَّادق، فلمَّا رأى زوج المرأة قميص يوسف قدَّ من دبرٍ ‏{‏قال‏:‏ إنَّه من كيدكنَّ‏}‏ أَيْ‏:‏ قولِك‏:‏ ‏{‏ما جزاء مَنْ أراد بأهلك سوءاً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏

‏{‏يوسف‏}‏ يا يوسف ‏{‏أعرض عن هذا‏}‏ اترك هذا الأمر فلا تذكره ‏{‏واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين‏}‏ الآثمين، ثمَّ شاع ما جرى بينهما في مدينة مصر حتى تحدَّثت بذلك النِّساء، وخضن فيه وهو قوله‏:‏

‏{‏وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها‏}‏ غلامها ‏{‏عن نفسه قد شغفها حُبَّاً‏}‏ قد دخل حبُّه في شغاف قلبها، وهو موضع الدَّم الذي يكون داخل القلب ‏{‏إنا لنراها في ضلالٍ‏}‏ عن طريق الرُّشد بحبِّها إيَّاه‏.‏

‏{‏فلما سمعت‏}‏ امرأة العزيز ‏{‏بمكرهنَّ‏}‏ مقالتهنَّ، وسمِّيت مكراً لأنهنَّ قصدْنَ بهذه المقالة أن تُريهنَّ يوسف، ليقوم لها العذر في حبِّه إذا رأين جماله، وكنَّ مشتهين ذلك؛ لأنَّ يوسف وُصف لهنَّ بالجمال ‏{‏أرسلت إليهن‏}‏ تدعوهنَّ ‏{‏وأعتدت‏}‏ وأعدَّت ‏{‏لهنَّ مُتّكَأً‏}‏ طعاماً يقطع بالسِّكين‏.‏ قيل‏:‏ هو الأترج ‏{‏وآتت‏}‏ وناولت ‏{‏كلَّ واحدةٍ منهن سكيناً وقالت‏}‏ ليوسف‏:‏ ‏{‏اخرج عليهنَّ فلما رأينه أكبرنه‏}‏ أعظمنه وهَالَهُنَّ أمره وبُهتن ‏{‏وقطعن أيديهنَّ‏}‏ حَززْنَها بالسَّكاكين، ولم يجدن الألم لشغل قلوبهنَّ بيوسف ‏{‏وقلن حاشَ لِلَّه‏}‏ بَعُدَ يوسف عن أن يكون بشراً ‏{‏إنْ هذا‏}‏ ما هذا ‏{‏إلاَّ ملك كريم‏}‏ فلمَّا رأت امرأة العزيز ذلك قالت‏:‏

‏{‏فذلكنَّ الذي لُمْتُنَّنِي فيه‏}‏ في حبِّه والشَّغف فيه، ثم أقرَّّت عندهنَّ بما فعلت فقالت‏:‏ ‏{‏ولقد راودته عن نفسه فاستعصم‏}‏ فامتنع وأبى، وتوعَّدته بالسِّجن فقالت‏:‏ ‏{‏ولئن لم يفعل‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية؛ فأمرنه بطاعتها، وقلن له‏:‏ إنَّك الظَّالم وهي المظلومة، فقال يوسف‏:‏

‏{‏ربِّ السجن أحبُّ إلي ممَّا يدعونني إليه‏}‏ من معصيتك ‏{‏وإلاَّ تصرف عني كيدهنَّ‏}‏ كيد جميع النِّساء ‏{‏أصبُ إليهنَّ‏}‏ أمل إليهنَّ ‏{‏وأكن من الجاهلين‏}‏ المذنبين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 37‏]‏

‏{‏فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏34‏)‏ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ‏(‏35‏)‏ وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآَخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏36‏)‏ قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏فاستجاب له ربُّه فصرف عنه كيدهنَّ‏}‏ حتى لم يقع في شيءٍ ممَّا يطالبنه به ‏{‏إنَّه هو السميع‏}‏ لدعائه ‏{‏العليم‏}‏ بما يخاف من الإثم‏.‏

‏{‏ثم بدا لهم‏}‏ للعزيز وأصحابه ‏{‏من بعد ما رأوا الآيات‏}‏ آيات براءة يوسف ‏{‏ليسجننه حتى حين‏}‏ وذلك أنَّ المرأة قالت‏:‏ إنَّ هذا العبد فضحني في النَّاس يُخبرهم أنِّي راودته عن نفسه، فاحبسه حتى تنقطع هذه المقالة، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏حتى حين‏}‏ أَيْ‏:‏ إلى انقطاع اللائمة‏.‏

‏{‏ودخل معه السجن فتيان‏}‏ غلامان للملك الأكبر، رُفع إليه أنَّ صاحب طعامه يريد أن يَسُمَّه، وصاحب شرابه مَالأَهُ على ذلك، فأدخلهما السِّجن، ورأيا يوسف يُعبِّر الرُّؤيا، فقالا‏:‏ لنجرِّب هذا العبد العبرانيّ، فتحالما من غير أن يكونا رأيا شيئاً، وهو قوله ‏{‏قال أحدهما‏}‏ وهو السَّاقي ‏{‏إني أراني أعصر خمراً‏}‏ أَيْ‏:‏ عنباً، وقال صاحب الطَّعام‏:‏ ‏{‏إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً‏}‏ رأيتُ كأنَّ فوقَ رأسي خبزاً ‏{‏تأكل الطير منه‏}‏ فإذا سباعُ الطير يَنْهَشْنَ منه ‏{‏نبئنا بتأويله‏}‏ أَيْ‏:‏ خبرنا بتفسير الرُّؤيا ‏{‏إنا نراك من المحسنين‏}‏ تُؤثر الإِحسان، وتأتي جميل الأفعال، فعدلَ يوسف عليه السَّلام عن جواب مسألتهما، ودَلَّهما أولاً على أنَّه عالمٌ بتفسير الرُّؤيا فقال‏:‏

‏{‏لا يأتيكما طعام ترزقانه‏}‏ تأكلان منه في منامكما ‏{‏إلاَّ نبأتكما بتأويله‏}‏ في اليقظة ‏{‏قبل أن يأتيكما‏}‏ التَّأويل ‏{‏ذلكما مما علمني ربّي‏}‏ أَيْ‏:‏ لست أخبركما على جهة التَّكهُّن والتَّنجُّم، إنَّما ذلك بوحي من الله عزَّ وجلَّ وعلمٍ، ثمَّ أخبر عن إيمانه واجتنابه الكفر بباقي الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 46‏]‏

‏{‏وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏38‏)‏ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ‏(‏39‏)‏ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏40‏)‏ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ‏(‏41‏)‏ وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ‏(‏42‏)‏ وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ‏(‏43‏)‏ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ ‏(‏44‏)‏ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ ‏(‏45‏)‏ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏ما كان لنا أنْ نشرك بالله من شيء‏}‏ يريد‏:‏ إنَّ الله سبحانه عصمنا من أن نشرك به ‏{‏ذلك من فضل الله علينا‏}‏ أَيْ‏:‏ اتِّباعنا للإِيمان بتوفيق الله تعالى وتفضُّله علينا ‏{‏وعلى الناس‏}‏ وعلى مَنْ عصمه الله من الشِّرك حتى اتَّبع دينه ‏{‏ولكنَّ أكثر الناس لا يشكرون‏}‏ نعمة الله بتوحيده، والإِيمان برسله، ثمَّ دعاهما إلى الإِيمان، فقال‏:‏

‏{‏يا صاحبي السجن‏}‏ يعني‏:‏ يا ساكنيه‏:‏ ‏{‏أأرباب متفرِّقون‏}‏ يعني‏:‏ الأصنام ‏{‏خير‏}‏ أعظم في صفة المدح ‏{‏أم الله الواحد القهار‏}‏ الذي يقهر كلَّ شيءٍ‏.‏

‏{‏ما تعبدون من دونه‏}‏ أنتما ومَنْ على مثل حالكما من دون الله ‏{‏إلاَّ أسماءً‏}‏ لا معانيَ وراءها ‏{‏سميتموها أنتم‏}‏، ‏{‏إن الحكم إلاَّ لله‏}‏ ما الفصلُ بالأمر والنَّهي إلاَّ لله ‏{‏ذلك الدين القيم‏}‏ المستقيم ‏{‏ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون‏}‏ ما للمطيعين من الثَّواب، وللعاصين من العقاب، ثمَّ ذكر تأويل رؤياهما بقوله‏:‏

‏{‏يا صاحبي السجن أمَّا أحدكما فيسقي ربَّه خمراً، وأمَّا الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه‏}‏ فقالا‏:‏ ما رأينا شيئاً، فقال‏:‏ ‏{‏قُضِيَ الأمر الذي فيه تستفتيان‏}‏ يعني‏:‏ سيقع بكما ما عبَّرت لكما، صدقْتُما أم كذبتما‏.‏

‏{‏وقال‏}‏ يوسف ‏{‏للذي ظنَّ‏}‏ علم ‏{‏إنَّه ناج منهما‏}‏ وهو السَّاقي‏:‏ ‏{‏اذكرني عند ربك‏}‏ عند الملك صاحبك، وقل له‏:‏ إنَّ في السِّجن غلاماً محبوساً ظلماً ‏{‏فأنساه الشيطان ذكر ربه‏}‏ أنسى الشَّيطان يوسف الاستغاثة بربِّه، وأوقع في قلبه الاستغاثة بالملك، فعوقب بأن ‏{‏لبث في السجن بضع سنين‏}‏ سبع سنين، فلمَّا دنا فرجه وأراد الله خلاصه رأى الملك رؤيا، وهو قوله‏:‏

‏{‏وقال الملك إني أرى‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ فلمَّا استفتاهم فيها‏.‏

‏{‏قالوا أضغاث أحلام‏}‏ أحلامٌ مختلطةٌ لا تأويل لها عندنا ‏{‏وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين‏}‏ أقرُّوا بالعجز عن تأويلها‏.‏

‏{‏وقال الذي نجا منهما‏}‏ وهو السَّاقي ‏{‏وادَّكر بعد أمةٍ‏}‏ وتذكَّر أمر يوسف بعد حين من الدَّهر‏:‏ ‏{‏أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون‏}‏ فأُرسل، فأتى يوسف فقال‏:‏

‏{‏يوسفُ‏}‏ أَيْ‏:‏ يا يوسف ‏{‏أيها الصديق‏}‏ الكثير الصِّدق، وقوله‏:‏ ‏{‏لعلي أرجع إلى الناس‏}‏ يعني‏:‏ أصحاب الملك ‏{‏لعلهم يعلمون‏}‏ تأويل رؤيا الملك من جهتك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 50‏]‏

‏{‏قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ ‏(‏47‏)‏ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ ‏(‏48‏)‏ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ‏(‏49‏)‏ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏قال تزرعون‏}‏ أَيْ‏:‏ ازرعوا ‏{‏سبع سنين دأباً‏}‏ متتابعةً، وهذا السَّبع تأويل البقرات السِّمان ‏{‏فما حصدتم‏}‏ ممَّا زرعتم ‏{‏فذروه في سنبله‏}‏ لأنَّه أبقى له وأبعد من الفساد ‏{‏إلا قليلاً ممًّا تأكلون‏}‏ فإنَّكم تدوسونه‏.‏

‏{‏ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد‏}‏ مُجدباتٌ صعابٌ، وهذه تأويل البقرات العجاف ‏{‏يأكلن‏}‏ يُفنين ويُذهبن ‏{‏مَا قدَّمتم لهن‏}‏ من الحَبِّ ‏{‏إلاَّ قليلاً ممَّا تحصنون‏}‏ تحرزون وتدَّخرون‏.‏

‏{‏ثمَّ يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون‏}‏ يمطرون ويخصبون حتى يعصروا من السِّمسم الدُّهن، ومن العنب الخمر، ومن الزَّيتون الزَّيت، فرجع الرَّسول بتأويل الرُّؤيا إلى الملك، فعرف الملك أنَّ ذلك تأويلٌ صحيحٌ، فقال‏:‏

‏{‏ائتوني‏}‏ بالذي عبَّر رؤياي، فجاء الرَّسول يوسف، وقال‏:‏ أجب الملك فقال للرسول‏:‏ ‏{‏ارجع إلى ربك‏}‏ يعني‏:‏ الملك ‏{‏فسله‏}‏ أن يسأل ‏{‏ما بال النسوة‏}‏ ما حالهنَّ وشأنهنَّ، ليعلم صحَّة براءتي ممَّا قُذفت به، وذلك أنَّ النِّسوة كنَّ قد عرفن براءته بإقرار امرأة العزيز عندهنَّ، وهو قولها‏:‏ ‏{‏ولقد رَاودْتُه عن نفسِهِ فاستعصم‏}‏ فأحبَّ يوسف عليه السَّلام أن يُعلم الملك أنَّه حُبس ‏[‏ظلماً‏]‏، وأنَّه بريءٌ ممَّا قُذِف به، فسأله أن يستعلم النِّسوة عن ذلك ‏{‏إن ربي بكيدهنَّ‏}‏ ما فعلن في شأني حين رأينني وما قلن لي ‏{‏عليم‏}‏ فدعا الملك النِّسوة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 53‏]‏

‏{‏قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏51‏)‏ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ ‏(‏52‏)‏ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏ما خطبكنَّ‏}‏ ما قصتكنَّ وما شأنكنَّ ‏{‏إذ راودتنَّ يوسف عن نفسه‏}‏ جمعهنَّ في المُراوَدة؛ لأنَّه لم يعلم مَنْ كانت المُراوِدة ‏{‏قلن حاشَ لله‏}‏ بَعُدَ يوسف عمَّا يُتَّهم به ‏{‏ما علمنا عليه من سوء‏}‏ من زنا، فلمَّا برَّأْنَهُ أقرَّت امرأة العزيز فقالت‏:‏ ‏{‏الآن حصحص الحق‏}‏ أَيْ‏:‏ بان ووضح، وذلك أنَّها خافت إنْ كذَّبت شهدت عليها النِّسوة فقالت‏:‏ ‏{‏أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏هي راودتني عن نفسي‏}‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أَيْ‏:‏ ما فعله يوسف من ردِّ الرَّسول إلى الملك ‏{‏ليعلم‏}‏ وزير الملك- وهو الذي اشتراه- ‏{‏إني لم أخنه‏}‏ في زوجته ‏{‏بالغيب وأنَّ الله لا يهدي كيد الخائنين‏}‏ لا يرشد مَنْ خان أمانته، أَيْ‏:‏ إنَّه يفتضح في العاقبة بحرمان الهداية من الله عزَّ وجلَّ، فلمَّا قال يوسف عليه السَّلام‏:‏ ‏{‏ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب‏}‏ قال جبريل عليه السَّلام‏:‏ ولا حين هممت بها يوسف، فقال‏:‏

‏{‏وما أبرئ نفسي‏}‏ وما أُزكِّي نفسي ‏{‏إنَّ النفس لأمَّارة بالسوء‏}‏ بالقبيح وما لا يحبُّ الله ‏{‏إلاَّ ما‏}‏ مَنْ ‏{‏رحم ربي‏}‏ فعصمه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 58‏]‏

‏{‏وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ ‏(‏54‏)‏ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ‏(‏55‏)‏ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏56‏)‏ وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ‏(‏57‏)‏ وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏وقال الملك ائتوني به‏}‏ بيوسف ‏{‏أستخلصه لنفسي‏}‏ أجعله خالصاً لي لا يشركني فيه أحدٌ ‏{‏فلمَّا كلَّمه‏}‏ يوسف ‏{‏قال‏:‏ إنك اليوم لدينا مكين‏}‏ وجيهٌ ذو مكانةٍ ‏{‏أمين‏}‏ قد عرفنا أمانتك وبراءتك، ثمَّ سأله الملك أن يُعبِّر رؤياه شفاهاً، فأجابه يوسف بذلك، فقال له‏:‏ ما ترى أن نصنع‏؟‏ قال‏:‏ تجمع الطَّعام في السِّنين المخصبة ليأتيك الخلق فيمتارون منك بحكمك، فقال‏:‏ مَنْ لي بهذا ومَنْ يجمعه‏؟‏ فقال يوسف‏:‏

‏{‏اجعلني على خزائن الأرض‏}‏ على حفظها، وأراد بالأرض أرض مصر ‏{‏إني حفيظٌ عليمٌ‏}‏ كاتبٌ حاسبٌ‏.‏

‏{‏وكذلك‏}‏ وكما أنعمنا عليه بالخلاص من السِّجن ‏{‏مكنَّا ليوسف‏}‏ أقدرناه على ما يريد ‏{‏في الأرض‏}‏ أرض مصر ‏{‏يتبوأ منها حيث يشاء‏}‏ هذا تفسير التَّمكين في الأرض ‏{‏نصيب برحمتنا مَنْ نشاء‏}‏ أتفضَّل على مَنْ أشاء برحمتي ‏{‏ولا نضيع أجر المحسنين‏}‏ ثواب المُوحِّدين‏.‏

‏{‏ولأجر الآخرة خير‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ أَيْ‏:‏ ما يعطي الله من ثواب الآخرة خيرٌ للمؤمنين، والمعنى‏:‏ إنَّ ما يعطي الله تعالى يوسف في الآخرة خيرٌ ممَّا أعطاه في الدُّنيا، ثمَّ دخل أعوام القحط على النَّاس، فأصاب إخوة يوسف المجاعة، فأتوه مُمتارين، فذلك قوله‏:‏

‏{‏وجاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم وهم له منكرون‏}‏ لأنِّهم على زيِّ الملوك، وكان قد تقرَّر في أنفسهم هلاك يوسف‏.‏ وقيل‏:‏ لأنَّهم رأوه من وراء سترٍ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 67‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ‏(‏59‏)‏ فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ ‏(‏60‏)‏ قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ ‏(‏61‏)‏ وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏62‏)‏ فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ‏(‏63‏)‏ قَالَ هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏64‏)‏ وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ ‏(‏65‏)‏ قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آَتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ ‏(‏66‏)‏ وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

‏{‏ولما جهزهم بجهازهم‏}‏ يعني‏:‏ حمل لكلِّ رجلٍ منهم بعيراً ‏{‏قال ائتوني بأخٍ لكم من أبيكم‏}‏ يعني‏:‏ بنيامين، وذلك أنَّه سألهم عن عددهم فأخبروه، وقالوا‏:‏ خلَّفنا أحدنا عند أبينا، فقال يوسف‏:‏ فأتوني بأخيكم الذي من أبيكم‏.‏ ‏{‏ألا ترون أني أوفي الكيل‏}‏ أُتمُّه من غير بخسٍ ‏{‏وأنا خير المنزلين‏}‏ وذلك لأن حين أنزلهم أحسن ضيافتهم، ثمَّ أوعدهم على ترك الإِتيان بالأخ بقوله‏:‏

‏{‏فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون‏}‏‏.‏

‏{‏قالوا سنراود عنه أباه‏}‏ نطلب منه ونسأله أن يرسله معنا ‏{‏وإنا لفاعلون‏}‏ ما وعدناك من المراودة‏.‏

‏{‏وقال‏}‏ يوسف ‏{‏لفتيانه‏}‏ لغلمانه‏:‏ ‏{‏اجعلوا بضاعتهم‏}‏ التي أتوا بها لثمن الميرة، وكانت دارهم ‏{‏في رحالهم‏}‏ أوعيتهم ‏{‏لعلَّهم يعرفونها‏}‏ عساهم يعرفون أنَّها بضاعتهم بعينها ‏{‏إذا انقلبوا إلى أهلهم‏}‏ وفتحوا أوعيتهم ‏{‏لعلهم يرجعون‏}‏ عساهم يرجعون إذا عرفوا ذلك؛ لأنَّّهم لا يستحلُّون إمساكها‏.‏

‏{‏فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منّا الكيل‏}‏ حُكم علينا بمنع الكيل بعد هذا إن لم نذهب بأخينا‏.‏ يعنون قوله‏:‏ ‏{‏فلا كيل لكم عندي ولا تقربون‏}‏‏.‏ ‏{‏فأرسل معنا أخانا نكتل‏}‏ نأخذ كيلنا‏.‏

‏{‏قال هل آمنكم عليه‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، يقول‏:‏ لا آمنكم على بنيامين إلاَّ كأمني على يوسف، يريد‏:‏ إنَّه لم ينفعه ذلك الأمن، فإنَّهم خانوه، فهو- وإن أَمِنَهم في هذا- خاف خيانتهم أيضاً، ثمَّ قال‏:‏ ‏{‏فالله خير حافظاً‏}‏‏.‏

‏{‏ولما فتحوا متاعهم‏}‏ ما حملوه من مصر ‏{‏وجدوا بضاعتهم ردت إليهم قالوا يا أبانا ما نبغي‏}‏ منك شيئاً تردُّنا به وتصرفنا إلى مصر ‏{‏هذه بضاعتنا ردت إلينا‏}‏ فنتصرَّف بها ‏{‏ونميرُ أهلنا‏}‏ نجلب إليهم الطَّعام ‏{‏ونزداد كيل بعير‏}‏ نزيد حِمْل بعيرٍ من الطَّعام، لأنَّه كان يُكال لكلِّ رجلٍ وِقْر بعير ‏{‏ذلك كيلٌ يسير‏}‏ متيسِّرٌ على مَنْ يكيل لنا لسخائه‏.‏

‏{‏قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقاً من الله‏}‏ حتى تحلفوا بالله ‏{‏لَتَأْتُنَّني به إلاَّ أن يحاط بكم‏}‏ إلا أن تموتوا كلُّكم ‏{‏فلما آتَوْهُ موثقهم‏}‏ عهدهم ويمينهم ‏{‏قال‏}‏ يعقوب عليه السَّلام‏:‏ ‏{‏الله على ما نقول وكيل‏}‏ شهيد، فلمَّا أرادوا الخروج من عنده قال‏:‏

‏{‏يا بني لا تدخلوا‏}‏ مصر ‏{‏من باب واحدٍ وادخلوا من أبواب متفرقة‏}‏ خاف عليهم العين، فأمرهم بالتَّفرقة ‏{‏وما أغني عنكم من الله من شيء‏}‏ يعني‏:‏ إنَّ الحذر لا يُغني ولا ينفع من القدر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏68- 74‏]‏

‏{‏وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏68‏)‏ وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏69‏)‏ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ‏(‏70‏)‏ قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ ‏(‏71‏)‏ قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ ‏(‏72‏)‏ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ ‏(‏73‏)‏ قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ ‏(‏74‏)‏‏}‏

‏{‏ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم‏}‏ وذلك أنَّهم دخلوا مصر متفرِّقين من أربعة أبواب ‏{‏ما كان يغني عنهم من الله من شيء‏}‏ ما كان ذلك ليردَّ قضاءً قضاه الله سبحانه ‏{‏إلاَّ حاجةً‏}‏ لكن حاجةً‏.‏ يعني‏:‏ إنَّ ذلك الدّخول قضى حاجةً في نفس يعقوب عليه السَّلام، وهي إرادته أن يكون دخولهم من أبوابٍ متفرِّقةٍ شفقةً عليهم ‏{‏وإنه لذو علم لما علمناه‏}‏ لذو يقينٍ ومعرفةٍ بالله سبحانه ‏{‏ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏}‏ أنَّ يعقوب عليه السَّلام بهذه الصِّفة‏.‏

‏{‏ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه‏}‏ ضمَّه إليه وأنزله عند نفسه ‏{‏قال إني أنا أخوك‏}‏ اعترف له بالنِّسب، وقال‏:‏ لا تخبرهم بما ألقيت إليك ‏{‏فلا تبتئس‏}‏ فلا تحزن ولا تغتم ‏{‏بما كانوا يعملون‏}‏ من الحسد لنا، وصرف وجه أبينا عنا‏.‏

‏{‏فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية‏}‏ وهو إناءٌ من ذهبٍ مرصَّعٌ بالجواهر ‏{‏في رحل أخيه‏}‏ بنيامين ‏{‏ثمَّ أذَّنَ مؤذنٌ‏}‏ نادى منادٍ ‏{‏أيتها العير‏}‏ الرُّفقة ‏{‏إنكم لسارقون‏}‏‏.‏

‏{‏قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون‏}‏‏؟‏

‏{‏قالوا نفقد صواع الملك‏}‏ يعني‏:‏ السِّقاية ‏{‏ولمن جاء به حمل بعير‏}‏ أَيْ‏:‏ من الطَّعام ‏{‏وأنا به زعيم‏}‏ كفيل‏.‏

‏{‏قالوا تالله لقد علمتم‏}‏ حلفوا على أنَّهم يعلمون صلاحهم وتجنُّبهم الفساد، وذلك أنَّهم كانوا معروفين بأنَّهم لا يظلمون أحداً، ولا يرزأون شيئاً لأحد‏.‏

‏{‏قالوا فما جزاؤه‏}‏ أَيْ‏:‏ ما جزاء السَّارق ‏{‏إن كنتم كاذبين‏}‏ في قولكم‏:‏ ما كنا سارقين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 76‏]‏

‏{‏قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ‏(‏75‏)‏ فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ‏(‏76‏)‏‏}‏

‏{‏قالوا جزاؤه مَنْ وجد في رحله‏}‏ ‏[‏وكانوا يستعبدون كلَّ سارقٍ بسرقته، فلذلك قالوا‏:‏ جزاؤه مَنْ وجد في رحله‏]‏ أَيْ‏:‏ جزاء السَّرق، مَنْ وجد في رحله المسروق ‏{‏فهو جزاؤه‏}‏ أَيْ‏:‏ فالسَّرق جزاء السَّارق ‏{‏كذلك نجزي الظالمين‏}‏ أَيْ‏:‏ إذا سرق سارقٌ اسْتُرِقَّ، فلمَّا أقرُّوا بهذا الحكم صُرف بهم إلى يوسف عليه السَّلام ليفتِّش أمتعتهم‏.‏

‏{‏فبدأ‏}‏ يوسف ‏{‏بأوعيتهم‏}‏ وهي كلُّ ما استودع شيئاً من جرابٍ وجوالق ومِخْلاةٍ ‏{‏قبل وعاء أخيه‏}‏ نفياً للتُّهمة ‏{‏ثمَّ استخرجها‏}‏ يعني‏:‏ السِّقاية ‏{‏من وعاء أخيه كذلك كدنا‏}‏ ألهمنا ‏{‏ليوسف‏}‏ أي‏:‏ ألهمناه مثل ذلك الكيد، حتى ضممنا أخاه إليه ‏{‏ما كان ليأخذ أخاه‏}‏ ويستوجب ضمَّه إليه ‏{‏في دين الملك‏}‏ في حكمه وسيرته وعادته ‏{‏إلاَّ‏}‏ بمشيئة الله تعالى، وذلك أنَّ حكم الملك في السَّارق أن يضرب ويغرم ضعفي ما سرق، فلم يكن يوسف يتمكَّن من حبس أخيه في حكم الملك لولا ما كاد الله له تلطُّفاً، حتى وجد السَّبيل إلى ذلك، وهو ما أجري على ألسنة إخوته أنَّ جزاء السَّارق الاسترقاق، ‏{‏نرفع درجات مَنْ نشاء‏}‏ بضروب الكرامات وأبواب العلم كما رفعنا درجة يوسف على إخوته في كلِّ شيء ‏{‏وفوق كلِّ ذي علم عليم‏}‏ يكون هذا أعلم من هذا، وهذا أعلم من هذا حتى ينتهي العلم إلى الله سبحانه‏.‏ فلمَّا خرج الصُّواع من رحل بنيامين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏77- 78‏]‏

‏{‏قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ ‏(‏77‏)‏ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

‏{‏قالوا‏}‏ ليوسف ‏{‏إن يسرق‏}‏ الصُّواع ‏{‏فقد سرق أخ له من قبل‏}‏ يعنون‏:‏ يوسف عليه السَّلام، وذلك أنَّه كان يأخذ الطعام من مائدة أبيه سرَّاً منهم، فيتصدَّق به في المجاعة، حتى فطن به إخوته ‏{‏فأسرَّها يوسف في نفسه‏}‏ أَيْ‏:‏ أسرَّ الكلمة التي كانت جواب قولهم هذا ‏{‏ولم يُبدها لهم‏}‏ وهو أنَّه قال في نفسه‏:‏ ‏{‏أنتم شرٌّ مكاناً‏}‏ عند الله بما صنعتم من ظلم أخيكم وعقوق أبيكم ‏{‏والله أعلم بما تصفون‏}‏ أَيْ‏:‏ قد علم أنَّ الذي تذكرونه كذبٌ‏.‏

‏{‏قالوا يا أيها العزيز إنَّ له أباً شيخاً كبيراً‏}‏ في السِّنِّ ‏{‏فخذ أحدنا مكانه‏}‏ واحداً منَّا تستعبده بدله ‏{‏إنا نراك من المحسنين‏}‏ إذا فعلت ذلك فقد أحسنت إلينا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 81‏]‏

‏{‏فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ‏(‏80‏)‏ ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

‏{‏فلما استيأسوا‏}‏ يئسوا ‏{‏منه خلصوا نجياً‏}‏ انفردوا متناجين في ذهابهم إلى أبيهم من غير أخيهم ‏{‏قال كبيرهم‏}‏ وهو روبيل، وكان أكبرهم سنَّاً‏:‏ ‏{‏ألم تعلموا أنَّ أباكم قد أخذ عليكم موثقاً من الله‏}‏ في حفظ الأخ وردِّه إليه ‏{‏ومن قبل ما فرطتم في يوسف‏}‏ ‏"‏ ما ‏"‏ زائدة، أَيْ‏:‏ قصَّرتم في أمر يوسف وخنتموه فيه ‏{‏فلن أبرح الأرض‏}‏ لن أخرج من أرض مصر ‏{‏حتى يأذن لي أبي‏}‏ يبعث إليَّ أنَْ آتيه ‏{‏أو يحكم الله لي‏}‏ يقضي في أمري شيئاً ‏{‏وهو خير الحاكمين‏}‏ أعدلهم، وقال لإخوته‏:‏

‏{‏ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إنَّ ابنك سرق‏}‏ يعنون في ظاهر الأمر ‏{‏وما شهدنا إلاَّ بما علمنا‏}‏ لأنَّه وُجدت السَّرقة في رحله ونحن ننظر ‏{‏وما كنا للغيب حافظين‏}‏ ما كنا نحفظه إذا غاب عنا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏82- 86‏]‏

‏{‏وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ‏(‏82‏)‏ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ‏(‏83‏)‏ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ‏(‏84‏)‏ قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ‏(‏85‏)‏ قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

‏{‏واسأل القرية التي كنَّا فيها‏}‏ أَيْ‏:‏ أهل مصر ‏{‏والعير التي أقبلنا فيها‏}‏ يريد‏:‏ أهل الرُّفقة، فلمَّا رجعوا إلى أبيهم يعقوب عليه السَّلام قالوا له هذا، فقال‏:‏

‏{‏بل سوَّلت لكم أنفسكم أمراً‏}‏ زيَّنته لكم حتى أخرجتم بنيامين من عندي رجاء منفعة، فعاد من ذلك شرٌّ وضررٌ‏.‏

‏{‏وتولى عنهم‏}‏ أعرض عن بنيه، وتجدَّد وَجْدُه بيوسف ‏{‏وقال‏:‏ يا أسفى على يوسف‏}‏ يا طول حزني عليه ‏{‏وابيضت عيناه‏}‏ انقلبت إلى حال البياض، فلم يبصر بهما ‏{‏من الحزن‏}‏ من البكاء ‏{‏فهو كظيم‏}‏ مغمومٌ مكروبٌ لا يُظهر حزنه بجزعٍ أو شكوى‏.‏

‏{‏قالوا تالله تفتأ‏}‏ لا تزال ‏{‏تذكر يوسف‏}‏ لا تَفْتُر من ذكره ‏{‏حتى تكون حرضاً‏}‏ فاسداً دنفاً ‏{‏أو تكون من الهالكين‏}‏ الميِّتين‏.‏ والمعنى‏:‏ لا تزال تذكره بالحزن والبكاء عليه حتى تصير بذلك إلى مرض لا تنتفع بنفسك معه، أو تموت بغمِّه، فلمَّا أغلظوا له في القول‏.‏

‏{‏قال إنما أشكو بثِّي‏}‏ ما بي من البثِّ، وهو الهمُّ الذي تفضي به إلى صاحبك ‏{‏وحزني إلى الله‏}‏ لا إليكم ‏{‏وأعلم من الله ما لا تعلمون‏}‏ وهو أنَّه علم أنَّ يوسف حيٌّ، أخبره بذلك مَلَكُ الموت، وقال له‏:‏ اطلبه من هاهنا، وأشار له إلى ناحية مصر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏87- 89‏]‏

‏{‏يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ‏(‏87‏)‏ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ‏(‏88‏)‏ قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

‏{‏يا بنيَّ اذهبوا فتحسسوا من يوسف‏}‏ تَبَحَّثوا عنه ‏{‏ولا تَيْأَسُوا من روح الله‏}‏ من الفرج الذي يأتي به ‏{‏إنه لا يَيْأَسُ من روح الله إلاَّ القوم الكافرون‏}‏ يريد‏:‏ إنَّ المؤمن يرجو الله تعالى في الشدائد، والكافر ليس كذلك، فخرجوا إلى مصر‏.‏

‏{‏فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسَّنا وأهلنا الضر‏}‏ أصابنا ومَنْ يختصُّ بنا الجوع ‏{‏وجئنا ببضاعة مزجاة‏}‏ ندافع بها الأيام ونتقوَّت، وليست ممَّا يتشبَّع به، وكانت دراهم زيوفاً ‏{‏فأوف لنا الكيل‏}‏ سألوه مساهلتهم في النَّقد، وإعطاءَهم بدراهمهم مثل ما يعطي بغيرها من الجياد ‏{‏وتصدَّق علينا‏}‏ بما بين القيمتين ‏{‏إن الله يجزي‏}‏ يتولَّى جزاء ‏{‏المتصدقين‏}‏ فلمَّا قالوا هذا أدركته الرِّقَّة ودمعت عيناه، وقال توبيخاً لهم وتعظيماً لما فعلوا‏:‏

‏{‏هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه‏}‏ بإدخال الغمِّ عليه بإفراده من يوسف ‏{‏إذ أنتم جاهلون‏}‏ آثمون بيعقوب أبيكم، وقطع رحم أخيكم جهلاً منكم، ولمَّا قال لهم هذه المقالة رفع الحجاب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏90- 96‏]‏

‏{‏قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏90‏)‏ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ ‏(‏91‏)‏ قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ‏(‏92‏)‏ اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏93‏)‏ وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ ‏(‏94‏)‏ قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ ‏(‏95‏)‏ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏96‏)‏‏}‏

‏{‏أإنك لأنت يوسف قال أنا يوسف‏}‏ الذي فعلتم به ما فعلتم ‏{‏وهذا أخي‏}‏ المظلوم من جهتكم ‏{‏قد منَّ الله علينا‏}‏ بالجمع بيننا بعد ما فرَّقتم ‏{‏إنه مَن يتق‏}‏ الله ‏{‏ويصبر‏}‏ على المصائب ‏{‏فإنَّ الله لا يضيع أَجْرَ المحسنين‏}‏ أجر مَنْ كان هذا حاله‏.‏

‏{‏قالوا تالله لقد آثرك الله علينا‏}‏ فضَّلك الله علينا بالعقل والعلم، والفضل والحسن ‏{‏وإنْ كنا لخاطئين‏}‏ آثمين في أمرك‏.‏

‏{‏قال لا تثريب عليكم اليوم‏}‏ لا تأنيب ولا تعيير عليكم بعد هذا اليوم، ثمَّ جعلهم في حلِّ، وسأل لهم المغفرة فقال‏:‏ ‏{‏يغفر الله لكم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، ثمَّ سألهم عن أبيه فقالوا‏:‏ ذهبت عيناه، فقال‏:‏

‏{‏اذهبوا بقميصي هذا‏}‏ وكان قد نزل به جبريل عليه السَّلام على إبراهيم عليه السَّلام لمَّا أُلقي في النَّار، وكان فيه ريح الجنَّة لا يقع على مبتلى ولا سقيم إلاَّ صحَّ، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً‏}‏ يرجعْ ويَعُدْ بصيراً‏.‏

‏{‏ولما فصلت العير‏}‏ خرجت من مصر مُتوجِّهةً إلى كنعان ‏{‏قال أبوهم‏}‏ لمن حضره‏:‏ ‏{‏إني لأجد ريح يوسف‏}‏ وذلك أنَّه هاجت الرِّيح فحملت ريح القميص واتَّصلت بيعقوب، فوجد ريح الجنَّة، فعلم أنَّه ليس في الدُّنيا من ريح الجنَّة إلاَّ ما كان من ذلك القميص ‏{‏لولا أن تفندون‏}‏ تُسفِّهوني وتُجهِّلوني‏.‏

‏{‏قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم‏}‏ شقائك القديم ممَّا تكابد من الأحزان على يوسف وخطئك في النِّزاع إليه على بعد عهده منك، وكان عندهم أنَّه قد مات، وقوله‏:‏

‏{‏فارتدَّ بصيراً‏}‏ أَيْ‏:‏ عاد ورجع بصيراً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏98- 99‏]‏

‏{‏قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏98‏)‏ فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ ‏(‏99‏)‏‏}‏

‏{‏سوف أستغفر لكم ربي‏}‏ أخَّر ذلك إلى السَّحَر؛ ليكون أقرب إلى الإجابة، وكان قد بعث يوسف عليه السًّلام مع البشير إلى يعقوب عليه السَّلام عُدَّة المسير إليه، فتهيَّأ يعقوب وخرج مع أهله إليه، فذلك قوله‏:‏

‏{‏فلما دخلوا على يوسف آوى إليه‏}‏ أَيْ‏:‏ ضمَّ إليه ‏{‏أبويه‏}‏ أباه وخالته، وكانت أمُّه قد ماتت، ‏{‏وقال ادخلوا مصر‏}‏ وذلك أنَّه كان قد استقبلهم، فقال لهم قبل دخول مصر‏:‏ ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله، وكانوا قبل ذلك يخافون دخول مصر إلاَّ بجوازٍ من ملوكهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏100- 103‏]‏

‏{‏وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ‏(‏100‏)‏ رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ‏(‏101‏)‏ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ‏(‏102‏)‏ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏103‏)‏‏}‏

‏{‏ورفع أبويه على العرش‏}‏ أجلسهما على السَّرير ‏{‏وخرُّوا له سجداً‏}‏ سجدوا ليوسف سجدة التَّحيَّة وهو الانحناء‏.‏ ‏{‏وقد أحسن بي‏}‏ إليَّ ‏{‏إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو‏}‏ وهو البسيط من الأرض، وكان يعقوب وولده بأرض كنعان أهل مواشٍ وبريَّة ‏{‏من بعد أن نزغ الشيطان‏}‏ أفسد ‏{‏بيني وبين إخوتي‏}‏ بالحسد ‏{‏إنَّ ربي لطيف لما يشاء‏}‏ عالم بدقائق الأمور ‏{‏إنَّه هو العليم‏}‏ بخلقه ‏{‏الحكيم‏}‏ فيهم بما شاء، ثمَّ دعا ربَّه وشكره فقال‏:‏

‏{‏رب قد آتيتني من الملك‏}‏ ملك مصر ‏{‏وعلمتني من تأويل الأحاديث‏}‏ يريد‏:‏ تفسير الأحلام ‏{‏فاطر السموات والأرض‏}‏ خالقهما ابتداءً ‏{‏توفني مسلماً‏}‏ اقبضني على الإِسلام ‏{‏وألحقني بالصالحين‏}‏ من آبائي إبراهيم وإسماعيل وإسحاق عليهم السَّلام‏.‏ يريد‏:‏ ارفعني إلى درجاتهم‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ الذي قصصنا عليك من أمر يوسف من الأخبار التي كانت غائبة عنك، وهو قوله ‏{‏من أنباءِ الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم‏}‏ لدى إخوة يوسف ‏{‏إذ أجمعوا أمرهم‏}‏ عزموا على أمرهم ‏{‏وهم يمكرون‏}‏ بيوسف‏.‏

‏{‏وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين‏}‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجو أن تؤمن به قريش واليهود لمَّا سألوه عن قصَّة يوسف، فشرحها لهم فخالفوا ظنَّه، فقال الله‏:‏ ‏{‏وما أكثر الناس ولو حرصت‏}‏ على إيمانهم ‏{‏بمؤمنين‏}‏ لأنَّك لا تهدي مَنْ أحببت، لكنَّ الله يهدي مَنْ يشاء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏104- 107‏]‏

‏{‏وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ‏(‏104‏)‏ وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ‏(‏105‏)‏ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ‏(‏106‏)‏ أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏107‏)‏‏}‏

‏{‏وما تسألهم عليه‏}‏ على القرآن ‏{‏من أجرٍ‏}‏ مالٍ يعطونك ‏{‏إن هو‏}‏ ما هو ‏{‏إلاَّ ذكر للعالمين‏}‏ تذكرةٌ لهم بما هو صلاحهم‏.‏ يريد‏:‏ إنَّا أزحنا العلَّة في التَّكذيب حيث بعثناك مُبلِّغاً بلا أجرٍ، غير أنَّه لا يؤمن إلاَّ مَن شاء الله سبحانه وإنْ حرص النبيُّ صلى الله عليه وسلم على ذلك‏.‏

‏{‏وكأين‏}‏ وكم ‏{‏من آية‏}‏ دلالةٍ تدلُّ على التَّوحيد ‏{‏في السموات والأرض‏}‏ من الشَّمس والقمر والنُّجوم والجبال وغيرها ‏{‏يمرُّون عليها‏}‏ يتجاوزونها غير مُتفكِّرين ولا معتبرين، فقال المشركون‏:‏ فإنَّا نؤمن بالله الذي خلق هذه الأشياء، فقال‏:‏ ‏{‏وما يؤمن أكثرهم بالله‏}‏ في إقراره بأنَّ الله خلقه، وخلق السَّموات والأرض إلاَّ وهو مشركٌ بعبادة الوثن‏.‏

‏{‏أفأمنوا‏}‏ يعني‏:‏ المشركين ‏{‏أن تأتيهم غاشية من عذاب الله‏}‏ عقوبة تغشاهم وتنبسط عليهم‏.‏

‏{‏قل‏}‏ لهم ‏{‏هذه‏}‏ الطَّريقة التي أنا عليها ‏{‏سبيلي‏}‏ سنَّتي ومنهاجي ‏{‏أدعوا إلى الله‏}‏ وتمَّ الكلام، ثمَّ قال‏:‏ ‏{‏على بصيرة أنا‏}‏ أَيْ‏:‏ على دينٍ ويقينٍ ‏{‏ومن اتبعني‏}‏ يعني‏:‏ أصحابه، وكانوا على أحسن طريقة ‏{‏وسبحان الله‏}‏ أَيْ‏:‏ وقل‏:‏ سبحان الله تنزيهاً لله تعالى عمَّا أشركوا ‏{‏وما أنا من المشركين‏}‏ الذين اتَّخذوا مع الله ندَّاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏109- 111‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏109‏)‏ حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏110‏)‏ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏111‏)‏‏}‏

‏{‏وما أرسلنا من قبلك إلاَّ رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى‏}‏ يريد‏:‏ لم نبعث قبلك نبيَّاً إلاَّ رجالاً غير امرأةٍ، وكانوا من أهل الأمصار، ولم نبعث نبيَّاً من باديةٍ، وهذا ردٌّ لإِنكارهم نبوَّته‏.‏ يريد‏:‏ إنَّ الرُّسل من قبلك كانوا على مثل حالك، ومَنْ قبلهم من الأمم كانوا على مثل حالهم، فأهلكناهم، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏أفلم يسيروا في الأرض فينظروا‏}‏ إلى مصارع الأمم المُكذِّبة فيعتبروا بهم ‏{‏ولدار الآخرة‏}‏ يعني‏:‏ الجنَّة ‏{‏خير للذين اتقوا‏}‏ الشِّرك في الدُّنيا ‏{‏أفلا تعقلون‏}‏ هذا حتى تُؤمنوا‏؟‏‏!‏ ‏{‏حتى إذا استيأس الرسل‏}‏ يئسوا من قومهم أن يؤمنوا ‏{‏وظنوا أنهم قد كذبوا‏}‏‏.‏

أيقنوا أنَّ قومهم قد كذَّبوهم ‏{‏جاءهم نصرنا فنجِّي مَنْ نشاء‏}‏ وهم المؤمنون أتباع الأنبياء ‏{‏ولا يردُّ بأسنا‏}‏ عذابنا‏.‏

‏{‏لقد كان في قصصهم‏}‏ يعني‏:‏ إخوة يوسف ‏{‏عبرة‏}‏ فكرةٌ وتدبُّرٌ ‏{‏لأولي الألباب‏}‏ وذلك أنَّ مَنْ قدر على إعزاز يوسف، وتمليكه مصر بعد ما كان عبداً لبعض أهلها قادرٌ على أن يعزَّ محمداً عليه السَّلام وينصره ‏{‏ما كان‏}‏ القرآن ‏{‏حديثاً يفترى‏}‏ يتقولَّه بشر ‏{‏ولكن تصديق الذي بين يديه‏}‏ ‏[‏ولكن كان تصديق‏]‏ ما قبله من الكتب ‏{‏وتفصيل كل شيء‏}‏ يحتاج إليه من أمور الدِّين ‏{‏وهدىً‏}‏ وبياناً ‏{‏ورحمةً لقوم يؤمنون‏}‏ يصدِّقون بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

سورة الرعد

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏المر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏1‏)‏ اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ‏(‏2‏)‏ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏3‏)‏ وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏المر‏}‏ أنا الله أعلم وأرى ‏{‏تلك‏}‏ يعني‏:‏ ما ذُكر من الأحكام والأخبار قبل هذه الآية ‏{‏آيات الكتاب‏}‏ القرآن ‏{‏والذي أُنزل إليك من ربك الحق‏}‏ ليس كما يقوله المشركون أنك تأتي به من قبل نفسك باطلاً ‏{‏ولكنَّ أكثر الناس‏}‏ يعني‏:‏ أهل مكة ‏{‏لا يؤمنون‏}‏‏.‏

‏{‏اللَّهُ الذي رفع السموات بغير عمدٍ‏}‏ جمع عماد، وهي الأساطين ‏{‏ترونها‏}‏ أنتم كذلك مرفوعة بغير عمادٍ ‏{‏ثمَّ استوى على العرش‏}‏ بالاستيلاء والاقتدار، وأصله‏:‏ استواء التَّدبير، كما أنَّ أصل القيام الانتصاب، ثمَّ يقال‏:‏ قام بالتَّدبير، و‏"‏ ثُمَّ ‏"‏ يدلُّ على حدوث العرش المستولى عليه ‏[‏لا على حدوث الاستيلاء بعد خلق العرش المستولى عليه‏]‏ ‏{‏وسخر الشمس والقمر‏}‏ ذلَّلهما لما يُراد منهما ‏{‏كلٌّ يجري لأجلٍ مسمَّىً‏}‏ إلى وقتٍ معلومٍ، وهو فناء الدُّنيا ‏{‏يُدبِّر الأمر‏}‏ يُصرِّفه بحكمته ‏{‏يُفصِّل الآيات‏}‏ يبيِّن الدلائل التي تدلُّ على التَّوحيد والبعث ‏{‏لعلَّكم بلقاء ربِّكم توقنون‏}‏ لكي تُوقنوا يا أهل مكَّة بالبعث‏.‏

‏{‏وهو الذي مدَّ الأرض‏}‏ بسطها ووسًّعها ‏{‏وجعل فيها رواسي‏}‏ أوتدها بالجبال ‏{‏وأنهاراً ومن كلِّ الثمرات جعل فيها زوجين اثنين‏}‏ حلواً وحامضاً، وباقي الآية مضى تفسيره‏.‏

‏{‏وفي الأرض قطعٌ متجاورات‏}‏ قُرىً بعضُها قريبٌ من بعضٍ ‏{‏وجنات‏}‏ بساتين ‏{‏من أعناب‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏صنوان‏}‏ وهو أن يكون الأصل واحداً، ثمَّ يتفرَّع فيصير نخيلاً يحملن، وأصلهنَّ واحد ‏{‏وغير صنوان‏}‏ وهي المتفرِّقة واحدةً واحدةً ‏{‏تسقى‏}‏ هذه القطع والجنَّات والنَّخيل ‏{‏بماء واحدٍ ونُفضِّل بعضها على بعض‏}‏ يعني‏:‏ اختلاف الطُّعوم ‏{‏في الأكل‏}‏ وهو الثَّمر فمن حلوٍ وحامضٍ، وجيِّدٍ ورديءٍ ‏{‏إنَّ في ذلك لآيات‏}‏ لدلالاتٍ ‏{‏لقوم يعقلون‏}‏ أهل الإِيمان الذين عقلوا عن الله تعالى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 8‏]‏

‏{‏وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏5‏)‏ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏6‏)‏ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ‏(‏7‏)‏ اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏وإن تعجب‏}‏ يا محمد من عبادتهم ما لا يضرُّ ولا ينفع، وتكذيبك بعد البيان فتعجَّبْ أيضاً من إنكارهم البعث، وهو معنى قوله‏:‏ ‏{‏فعجب قولهم أإذا كنا تراباً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ ‏{‏وأولئك الأغلال‏}‏ جمع غُلٍّ، وهو طوقٌ تقيَّد به اليد إلى العنق‏.‏

‏{‏ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة‏}‏ يعني‏:‏ مشركي مكَّة حين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالعذاب استهزاءً‏.‏ يقول‏:‏ ويستعجلونك بالعذاب الذي لم أُعاجلهم به، وهو قوله‏:‏ ‏{‏قبل الحسنة‏}‏‏.‏ يعني‏:‏ إحسانه إليهم في تأخير العقوبة عنهم إلى يوم القيامة ‏{‏وقد خلت من قبلهم المَثُلاتُ‏}‏ وقد مضت من قبلهم العقوبات في الأمم المُكذِّبة، فلم يعتبروا بها ‏{‏وإنَّ ربَّك لذو مغفرة للناس على ظلمهم‏}‏ بالتَّوبة‏.‏ يعني‏:‏ يتجاوز عن المشركين إذا آمنوا ‏{‏وإنَّ ربك لشديد العقاب‏}‏ يعني‏:‏ لمَنْ أصرَّ على الكفر‏.‏

‏{‏ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آيةٌ من ربِّه‏}‏ هلاَّ أتانا بآيةٍ كما أتى به موسى من العصا واليد ‏{‏إنما أنت منذر‏}‏ بالنَّار لمَنْ عصى، وليس إليك من الآيات شيءٌ ‏{‏ولكلِّ قومٍ هاد‏}‏ نبيٌّ وَدَاعٍ إلى الله عزَّ وجلَّ يدعوهم لما يُعطَى من الآيات، لا بما يريدون ويتحكَّمون‏.‏

‏{‏الله يعلم ما تحملُ كلُّ أنثى‏}‏ من علقةٍ ومضغةٍ، وزائدٍ وناقصٍ، وذَكَرٍ وأنثى ‏{‏وما تَغِيضُ الأرحام‏}‏ تنقصه من مدَّة الحمل التي هي تسعة أشهر ‏{‏وما تزداد‏}‏ على ذلك ‏{‏وكلُّ شيءٍ عنده بمقدار‏}‏ علم كلَّ شيءٍ فقدَّره تقديراً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 12‏]‏

‏{‏عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ‏(‏9‏)‏ سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ‏(‏10‏)‏ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ‏(‏11‏)‏ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏عالم الغيب‏}‏ ما غاب عن جميع خلقه ‏{‏والشهادة‏}‏ وما شهده الخلق ‏{‏الكبير‏}‏ العظيم القدر ‏{‏المتعال‏}‏ عمّا يقوله المشركون‏.‏

‏{‏سواء منكم‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ يقول‏:‏ الجاهر بنطقه، والمُضمر في نفسه، والظَّاهر في الطُُّرقات، والمستخفي في الظُّلمات، علمُ الله سبحانه فيهم جميعاً سواءٌ، والمستخفي معناه‏:‏ المختفي، والسَّارب‏:‏ الظَّاهر المارُّ على وجهه‏.‏

‏{‏له‏}‏ لله سبحانه ‏{‏معقبات‏}‏ ملائكةٌ حفظةٌ تتعاقب في النُّزول إلى الأرض، بعضهم باللَّيل، وبعضهم بالنَّهار ‏{‏من بين يديه‏}‏ يدي الإِنسان ‏{‏ومن خلفه يحفظونه من أمر الله‏}‏ أَيْ‏:‏ بأمره سبحانه ممَّا لم يُقدَّر، فإذا جاء القدر خلَّوا بينه وبينه‏.‏ ‏{‏إنَّ الله لا يُغيِّر ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم‏}‏ لا يسلب قوماً نعمةً حتى يعملوا بمعاصيه ‏{‏وإذا أراد الله بقومٍ سوءاً‏}‏ عذاباً ‏{‏فلا مردَّ له‏}‏ فلا ردَّ له ‏{‏وما لهم من دونه من والٍ‏}‏ يلي أمرهم ويمنع العذاب عنهم‏.‏

‏{‏هو الذي يريكم البرق خوفاً‏}‏ للمسافر ‏{‏وطمعاً‏}‏ للحاضر في المطر ‏{‏وينشئ‏}‏ ويخلق ‏{‏السحاب الثقال‏}‏ بالماء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 15‏]‏

‏{‏وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ‏(‏13‏)‏ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ‏(‏14‏)‏ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏ويسبح الرعد‏}‏ وهو الملك المُوكَّل بالسَّحاب ‏{‏بحمده‏}‏ وهو ما يسمع من صوته، وذلك تسبيحٌ لله تعالى ‏{‏والملائكة من خيفته‏}‏ أَيْ‏:‏ وتُسبِّح الملائكة من خيفة الله تعالى وخشيته ‏{‏ويرسل الصواعق‏}‏ وهي التي تَحْرِق من برق السَّحاب، وينتشر على الأرض ضوؤُه ‏{‏فيصيب بها من يشاء‏}‏ كما أصاب أربد حين جادل النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وهم يجادلون في الله‏}‏ والواو للحال، وكان أربد جادل النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أخبرني عن ربِّنا، أمن نحاسٍ أم حديد‏؟‏ فأحرقته الصَّاعقة ‏{‏وهو شديد المحال‏}‏ العقوبة أَي‏:‏ القوَّة‏.‏

‏{‏له دعوة الحق‏}‏ لله من خلقه الدعوة الحقُّ، وهي كلمة التَّوحيد لا إله إلاَّ الله‏.‏ ‏{‏والذين يدعون‏}‏ يعني‏:‏ المشركين يدعون ‏{‏من دونه‏}‏ الأصنام ‏{‏لا يستجيبون لهم بشيء إلاَّ كباسط‏}‏ إلاَّ كما يستجاب للذي يبسط كفيه يشير إلى الماء، ويدعوه إلى فيه ‏{‏وما هو ببالغه‏}‏ وما الماء ببالغ فاه بدعوته إيَّاه ‏{‏وما دعاء الكافرين‏}‏ عبادتهم الأصنام ‏{‏إلاَّ في ضلال‏}‏ هلاكٍ وبطلانٍ‏.‏

‏{‏ولله يسجد مَنْ في السموات والأرض طوعاً‏}‏ يعني‏:‏ الملائكة والمؤمنين ‏{‏وكرهاً‏}‏ وهم مَنْ أُكرهوا على السُّجود، فسجدوا لله سبحانه من خوف السَّيف، واللَّفظ عامٌّ والمراد به الخصوص ‏{‏وظلالهم بالغدو والآصال‏}‏ كلُّ شخصٍ مؤمنٍ أو كافرٍ فإنَّ ظلَّه يسجد لله، ونحن لا نقف على كيفية ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 21‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ‏(‏16‏)‏ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ‏(‏17‏)‏ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ‏(‏18‏)‏ أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏19‏)‏ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ ‏(‏20‏)‏ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏قل‏}‏ يا محمد للمشركين‏:‏ ‏{‏من ربُّ السموات والأرض‏}‏‏؟‏ ثمَّ أخبرهم فقل‏:‏ ‏{‏الله‏}‏ لأنَّهم لا ينكرون ذلك، ثمَّ ألزمْهم الحجَّة فقلْ‏:‏ ‏{‏أفاتخذتم من دونه أولياء‏}‏ تولَّيتم غير ربِّ السَّماء والأرض أصناماً ‏{‏لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرَّاً‏}‏ ثمَّ ضرب مثلاً للذي يعبدها والذي يعبد الله سبحانه، فقال‏:‏ ‏{‏قل هل يستوي الأعمى‏}‏ المشرك ‏{‏والبصير‏}‏ المؤمن ‏{‏أم هل تستوي الظلمات‏}‏ الشِّرك ‏{‏والنور‏}‏ الإِيمان ‏{‏أم جعلوا لله شركاء‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ يعني‏:‏ أجعلوا لله شركاء خلقوا مثل ما خلق الله، فتشابه خلق الشُّركاء بخلق الله عندهم‏؟‏ وهذا استفهامُ إنكارٍ، أَيْ‏:‏ ليس الأمرُ على هذا حتى يشتبه الأمر، بل الله سبحانه هو المتفرِّد بالخلق، وهو قوله‏:‏ ‏{‏قل الله خالق كلِّ شيء‏}‏‏.‏

‏{‏أنزل من السماء ماءً‏}‏ يعني‏:‏ المطر ‏{‏فسالت أودية‏}‏ جمع وادٍ ‏{‏بقدرها‏}‏ بقدر ما يملأها‏.‏ أراد بالماء القرآن، وبالأودية القلوب، والمعنى‏:‏ أنزل قرآناً فقبلته القلوب بأقدارها منها ما رُزق الكثير، ومنها ما رُزق القليل، ومنها ما لم يُرزق شيئاً ‏{‏فاحتمل السيل زبداً‏}‏ وهو ما يعلو الماء ‏{‏رابياً‏}‏ عالياً فوقه، والزَّبَد مَثلُ الكفر‏.‏ يريد‏:‏ إنَّ الباطل- وإنْ ظهر على الحقِّ في بعض الأحوال- فإنَّ الله سيمحقه ويُبطله، ويجعل العاقبة للحقِّ وأهله، وهو معنى قوله‏:‏ ‏{‏فأمَّا الزبد فيذهب جفاء‏}‏ وهو ما رمى به الوادي ‏{‏وأمَّا ما ينفع الناس‏}‏ ممَّا ينبت المرعى ‏{‏فيمكث‏}‏ يبقى ‏{‏في الأرض‏}‏ ثمَّ ضرب مثلاً آخر، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وممَّا يوقدون عليه في النَّار‏}‏ يعني‏:‏ جواهر الأرض من الذَّهب والفضَّة والنُّحاس وغيرها ممَّا يدخل النَّار، فتوقد عليها وتتخذ منها الحُلِيُّ، وهو الذَّهب والفضَّة، والأمتعة وهي للأواني، يعني‏:‏ النُّحاس والرَّصاص وغيرهما، وهذا معنى قوله‏:‏ ‏{‏ابتغاء حلية أو متاعٍ زبدٌ مثله‏}‏ أَيْ‏:‏ مثل زبد الماء‏.‏ يريد‏:‏ إنَّ من هذه الجواهر بعضها خبث ينفيه الكير‏.‏ ‏{‏كذلك‏}‏ كما ذُكر من هذه الأشياء ‏{‏يضرب الله‏}‏ مثل الحقِّ والباطل، وهذه الآية فيها تقديمٌ وتأخير في اللَّفظ، والمعنى ما أخبرتك به‏.‏

‏{‏للذين استجابوا لربهم‏}‏ أجابوه لى ما دعاهم إليه ‏{‏الحسنى‏}‏ الجنَّة ‏{‏والذين لم يستجيبوا له‏}‏ وهم الكفَّار ‏{‏لو أنَّ لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به‏}‏ جعلوه فداء أنفسهم من العذاب ‏{‏أولئك لهم سوء الحساب‏}‏ وهو أن لا تُقبل منهم حسنة، ولا يتجاوز عن سيئة‏.‏

‏{‏أفمن يعلم أنَّ ما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى‏}‏ نزلت في أبي جهل لعنه الله، وحمزة رضي الله عنه ‏{‏إنما يتذكر‏}‏ يتَّعظ ويرتدع عن المعاصي ‏{‏أولوا الألباب‏}‏ يعني‏:‏ المهاجرين والأنصار‏.‏

‏{‏الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق‏}‏ يعني‏:‏ العهد الذي عاهدهم عليه وهم في صلب آدم‏.‏

‏{‏والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل‏}‏ وهو الإِيمان بجميع الرُّسل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22- 26‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ‏(‏22‏)‏ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ ‏(‏23‏)‏ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ‏(‏24‏)‏ وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ‏(‏25‏)‏ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏والذين صبروا‏}‏ على دينهم وما أُمروا به ‏{‏ابتغاء وجه ربِّهم‏}‏ طلب تعظيم الله تعالى ‏{‏ويدرؤون‏}‏ يدفعون ‏{‏بالحسنة‏}‏ بالتَّوبة ‏{‏السيئة‏}‏ المعصية، وهو أنَّهم كلَّما أذنبوا تابوا ‏{‏أولئك لهم عقبى الدار‏}‏ يريد‏:‏ عقباهم الجنَّة‏.‏

‏{‏جنات عدن يدخلونها ومَنْ صلح من آبائهم‏}‏ ومَنْ صدَّق بما صدَّقوا به- وإن لم يعملْ مثل أعمالهم- يلحق بهم كرامةً لهم ‏{‏والملائكة يدخلون عليهم من كلِّ باب‏}‏ بالتَّحيَّة من الله سبحانه، والهدايا‏.‏

‏{‏سلامٌ عليكم‏}‏ يقولون‏:‏ سلامٌ عليكم، والمعنى‏:‏ سلَّمكم الله من العذاب ‏{‏بما صبرتم‏}‏ بصبركم في دار الدُّنيا عمَّا لا يحلُّ ‏{‏فنعم عقبى الدار‏}‏ فنعم العقبى عقبى داركم التي عملتم فيها ما أعقبكم الذي أنتم فيه‏.‏

‏{‏والذين ينقضون‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ مُفسَّرة في سورة البقرة‏.‏

‏{‏الله يبسط الرزق‏}‏ يُوسِّعه ‏{‏لمن يشاء ويقدر‏}‏ ويضيِّق ‏{‏وفرحوا‏}‏ يعني‏:‏ مشركي مكة بما نالوا من الدُّنيا، وبطروا ‏{‏وما الحياة الدنيا في الآخرة‏}‏ في حياة الآخرة أَيْ‏:‏ بالقياس إليها ‏{‏إلاَّ متاع‏}‏ قليلٌ ذاهبٌ يُتمتَّع به ثمَّ يفنى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 30‏]‏

‏{‏وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ‏(‏27‏)‏ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ‏(‏28‏)‏ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآَبٍ ‏(‏29‏)‏ كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏ويقول الذين كفروا لولا‏}‏ هلاَّ ‏{‏أنزل عليه آيةٌ من ربه‏}‏ نزلت في مشركي مكَّة حين طالبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالآيات ‏{‏قل إنَّ الله يضلُّ مَنْ يشاء‏}‏ عن دينه، كما أضلَّكم بعدما أنزل من الآيات، وحرمكم الاستدلال بها ‏{‏ويهدي إليه‏}‏ يرشد إلى دينه ‏{‏مَنْ أناب‏}‏ رجع إلى الحقِّ‏.‏

‏{‏الذين آمنوا‏}‏ بدلٌ من قوله‏:‏ ‏{‏مَنْ أناب‏}‏ ‏{‏وتطمئن قلوبهم بذكر الله‏}‏ إذا سمعوا ذكر الله سبحانه وتعالى أحبُّوه واستأنسوا به ‏{‏ألا بذكر الله تطمئن القلوب‏}‏ يريد‏:‏ قلوب المؤمنين‏.‏

‏{‏الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم‏}‏ وهي شجرةٌ غرسها الله سبحانه بيده‏.‏ وقيل‏:‏ فرحٌ لهم وقُرَّة أعينٍ‏.‏

‏{‏كذلك‏}‏ كما أرسلنا الأنبياء قبلك ‏{‏أرسلناك في أمة‏}‏ في قرنٍ ‏{‏قد خلت‏}‏ قد مضت ‏{‏من قبلها أمم‏}‏ قرونٌ ‏{‏لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك‏}‏ يعني‏:‏ القرآن ‏{‏وهم يكفرون بالرحمن‏}‏ وذلك أنَّهم قالوا‏:‏ ما نعرف الرَّحمن إلاَّ صاحب اليمامة ‏{‏قل هو ربي‏}‏ أَي‏:‏ الرَّحمن الذي أنكرتم معرفته هو إلهي وسيِّدي ‏{‏لا إله إلاَّ هو‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 32‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ‏(‏31‏)‏ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏ولو أنَّ قرآناً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ نزلت حين قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنْ كنت نبيَّاً كما تقول فسيِّر عنا جبال مكة، فإنَّها ضيِّقةٌ واجعل لنا فيها عيوناً وأنهاراً حتى نزرع ونغرس، وابعث لنا آباءنا من الموتى يكلِّمونا أنَّك نبيٌّ، فقال الله سبحانه‏:‏ ‏{‏ولو أنَّ قرآناً سيرت به الجبال‏}‏ يريد‏:‏ لو قضيت على أن لا يقرأ القرآن على الجبال إلاَّ سارت، ولا على الأرض إلاَّ تخرَّقت بالعيون والأنهار، وعلى الموتى أن لا يُكلَّموا؛ ما آمنوا لما سبق عليهم في علمي، وهذا جواب ‏"‏ لو ‏"‏ وهو محذوف‏.‏ ‏{‏بل‏}‏ دع ذلك الذي قالوا من تسيير الجبال وغيره فالأمر لله جميعاً، لو شاء أن يؤمنوا لآمنوا، وإذا لم يشأ لم ينفع ما اقترحوا من الآيات، وكان المسلمون قد أرادوا أن يُظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم آيةً ليجتمعوا على الإِيمان، فقال الله‏:‏ ‏{‏أفلم ييئس الذين آمنوا‏}‏ يعلم الذين آمنوا ‏{‏أن لو يشاء الله‏}‏ لهداهم من غير ظهور الآيات ‏{‏ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا‏}‏ من كفرهم وأعمالهم الخبيثة ‏{‏قارعة‏}‏ داهيةٌ تقرعهم من القتل والأسر، والحرب، والجدب ‏{‏أو تحلُّ‏}‏ يا محمد أنت ‏{‏قريباً من دارهم حتى يأتي وعد الله‏}‏ يعني‏:‏ القيامة‏.‏ وقيل‏:‏ فتح مكَّة‏.‏

‏{‏ولقد استهزئ برسل من قبلك‏}‏ أُوذي وكُذِّب ‏{‏فأمليت للذين كفروا‏}‏ أطلتُ لهم المدَّة بتأخير العقوبة ليتمادوا في المعصية ‏{‏ثمَّ أخذتهم‏}‏ بالعقوبة ‏{‏فكيف كان عقاب‏}‏ كيف رأيت ما صنعتُ بمن استهزأ برسلي، كذلك أصنع بمشركي قومك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 35‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ‏(‏33‏)‏ لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ‏(‏34‏)‏ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏أفمن هو قائم على كلِّ نفس بما كسبت‏}‏ أَيْ‏:‏ بجرائه‏.‏ يعني‏:‏ متولٍّ لذلك، كما يقال‏:‏ قام فلان بأمر كذا‏:‏ إذا كفاه وتولاَّه، والقائم على كلِّ نفس هو الله تعالى والمعنى‏:‏ أفمن هو بهذه الصِّفة كمَنْ ليس بهذه الصِّفة من الأصنام التي لا تضرُّ ولا تنفع‏؟‏ وجواب هذا الاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏وجعلوا لله شركاء قل سموهم‏}‏ بإضافة أفعالهم إليهم إن كانوا شركاء لله تعالى، كما يضاف إلى الله أفعاله بأسمائه الحسنى، نحو‏:‏ الخالق والرَّازق، فإن سمَّوهم قل أتنبئونه ‏{‏أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض‏}‏ أَيْ‏:‏ أتخبرون الله بشريكٍ له في الأرض، وهو لا يعلمه، بمعنى‏:‏ أنَّه ليس ‏[‏له شريك‏]‏ ‏{‏أم بظاهرٍ من القول‏}‏ يعني‏:‏ أم تقولون مجازاً من القول وباطلاً لا حقيقة له، وهو كلامٌ في الظَّاهر، ولا حقيقة له في الباطن، ثمَّ قال‏:‏ ‏{‏بل‏}‏ أَيْ‏:‏ دع ذكر ما كنَّا فيه ‏{‏زين للذين كفروا مكرهم‏}‏ زيَّن الشَّيطان لهم الكفر ‏{‏وصدوا عن السبيل‏}‏ وصدَّهم الله سبحانه عن سبيل الهدى ‏{‏لهم عذاب في الحياة الدنيا‏}‏ بالقتل والأسر ‏{‏ولعذاب الآخرة أشقُّ‏}‏ أشدُّ وأغلظ ‏{‏وما لهم من الله‏}‏ من عذاب الله ‏{‏من واق‏}‏ حاجزٍ ومانعٍ‏.‏

‏{‏مثل الجنة‏}‏ صفة الجنَّة ‏{‏التي وعد المتقون‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أكلها دائم‏}‏ يريد‏:‏ إنَّ ثمارها لا تنقطع كثمار الدُّنيا ‏{‏وظلها‏}‏ لا يزول ولا تنسخه الشَّمس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 39‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآَبِ ‏(‏36‏)‏ وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ ‏(‏37‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ‏(‏38‏)‏ يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏والذين آتيناهم الكتاب‏}‏ يعني‏:‏ مؤمني أهل الكتاب ‏{‏يفرحون بما أنزل إليك‏}‏ وذلك أنَّهم ساءهم قلَّة ذكر الرحمن في القرآن مع كثرة ذكره في التَّوراة، فلما أنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن‏}‏ فرح بذلك مؤمنو أهل الكتاب، وكفر المشركون بالرَّحمن، وقالوا‏:‏ ما نعرف الرَّحمن إلاَّ رحمان اليمامة، وذلك قوله‏:‏ ‏{‏ومن الأحزاب‏}‏ يعني‏:‏ الكفَّار الذين تحزَّبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏مَنْ ينكر بعضه‏}‏ يعني‏:‏ ذكر الرَّحمن‏.‏

‏{‏وكذلك‏}‏ وكما أنزلنا الكتاب على الأنبياء بلسانهم ‏{‏أنزلناه حُكْماً عربياً‏}‏ يعني‏:‏ القرآن؛ لأنَّه به يحكم ويفصل بين الحقِّ والباطل، وهو بلغة العرب ‏{‏ولئن اتبعت أهواءهم‏}‏ وذلك أنَّ المشركين دعوه إلى ملَّة آبائه، فتوعَّده الله سبحانه على ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏ما لك من الله من ولي ولا واق‏}‏‏.‏

‏{‏ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً‏}‏ ينكحونهنَّ ‏{‏وذرية‏}‏ وأولاداً أنسلوهم، وذلك أنَّ اليهود عيَّرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بكثرة النِّساء، وقالوا‏:‏ ما له همَّةٌ إلاَّ النِّساء والنِّكاح ‏{‏وما كان لرسول أن يأتي بآية إلاَّ بإذن الله‏}‏ أَيْ‏:‏ بإطلاقه له الآية، وهذا جوابٌ للذين سألوه أن يوسِّع لهم مكَّة‏.‏ ‏{‏لكل أجل كتاب‏}‏ لكلِّ أجلٍ قدَّره الله، ولكلِّ أمرٍ قضاه كتابٌ أثبت فيه، فلا تكون آيةٌ إلاَّ بأجلٍ قد قضاه الله تعالى في كتابٍ‏.‏

‏{‏يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أمُّ الكتاب‏}‏ اللَّوح المحفوظ، يمحو منه ما يشاء ويثبت ما يشاء، وظاهر هذه الآية على العموم، وقال قوم‏:‏ إلاَّ السَّعادة والشَّقاوة، والموت والرِّزق، والخَلق والخُلق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 43‏]‏

‏{‏وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ‏(‏40‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏41‏)‏ وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ ‏(‏42‏)‏ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏وإمَّا نرينك بعض الذي نعدهم‏}‏ من العذاب ‏{‏أو نتوفينك‏}‏ قبل ذلك ‏{‏فإنما عليك البلاغ‏}‏ يريد‏:‏ قد بلَّغت ‏{‏وعلينا الحساب‏}‏ إليَّ مصيرهم فأجازيهم، أَيْ‏:‏ ليس عليك إلاَّ البلاغ كيف ما صارت حالهم‏.‏

‏{‏أَوَلَمْ يروا‏}‏ يعني‏:‏ مشركي مكَّة ‏{‏أَنَّا نأتي الأرض‏}‏ نقصد أرض مكَّة ‏{‏ننقصها من أطرافها‏}‏ بالفتوح على المسلمين‏.‏ يقول‏:‏ أولم ير أهل مكَّة أنَّا نفتح لمحمد صلى الله عليه وسلم ما حولها من القرى، أفلا يخافون أن تنالهم يا محمد ‏{‏والله يحكم‏}‏ بما يشاء ‏{‏لا معقب لحكمه‏}‏ لا أحدٌ يتتبع ما حكم به فيغيِّره، والمعنى‏:‏ لا ناقض لحكمه ولا رادَّ له ‏{‏وهو سريع الحساب‏}‏ أَي‏:‏ المجازاة‏.‏

‏{‏وقد مكر الذين من قبلهم‏}‏ يعني‏:‏ كفَّار الأمم الخالية، مكروا بأنبيائهم ‏{‏فلله المكر جميعاً‏}‏ يعني‏:‏ إنَّ مكر الماكرين له، أَيْ‏:‏ هو من خلقه، فالمكر جميعاً مخلوق له ليس يضرُّ منه شيءٌ إلاَّ بإذنه ‏{‏يعلم ما تكسب كلُّ نفس‏}‏ جميع الأكساب معلومٌ له ‏{‏وسيعلم الكافر‏}‏ وهو اسم الجنس ‏{‏لمن‏}‏ العاقبة بالجنَّة، وقوله تعالى‏:‏

‏{‏ومن عند علم الكتاب‏}‏ هم مؤمنو أهل الكتابين، وكانت شهادتهم قاطعةً لقول أهل الخصوم‏.‏

سورة إبراهيم

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏الر‏}‏ أنا الله أرى‏.‏ هذا ‏{‏كتابٌ أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور‏}‏ من الشِّرك إلى الإِيمان ‏{‏بإذن ربهم‏}‏ بقضاء ربِّهم؛ لأنَّه لا يهتدي مهتدٍ إلاَّ بإذن الله سبحانه، ثمَّ بيَّن ما ذلك النُّور فقال‏:‏ ‏{‏إلى صراط العزيز الحميد‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3- 7‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ‏(‏3‏)‏ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏4‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ‏(‏5‏)‏ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ‏(‏6‏)‏ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏الذين يستحبون‏}‏ يُؤثرون ويختارون ‏{‏الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله‏}‏ ويمنعون النَّاس عن دين الله ‏{‏ويبغونها عوجاً‏}‏ مضى تفسيره ‏{‏أولئك في ضلال‏}‏ في خطأ ‏{‏بعيد‏}‏ عن الحقِّ‏.‏

‏{‏وما أرسلنا من رسول إلاَّ بلسان قومه‏}‏ بلغة قومه ليفهموا عنه، وهو معنى قوله‏:‏ ‏{‏ليبيِّن لهم فيضل الله من يشاء‏}‏ بعد التَّبيين بإيثاره الباطل ‏{‏ويهدي مَنْ يشاء‏}‏ باتباع الحقِّ‏.‏

‏{‏ولقد أرسلنا موسى بآياتنا‏}‏ بالبراهين التي دلَّت على صحَّة نبوَّته ‏{‏أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور‏}‏ من الشِّرك إلى الإِيمان ‏{‏وذكرهم‏}‏ وَعِظهم ‏{‏بأيام الله‏}‏ بنعمه، أَي‏:‏ بالتَّرغيب والتَّرهيب، والوعد والوعيد ‏{‏إنَّ في ذلك‏}‏ التَّذكير بأيَّام الله ‏{‏لآيات‏}‏ لدلالاتٍ ‏{‏لكلِّ صبَّار‏}‏ على طاعة الله ‏{‏شكور‏}‏ لأنعمه، والآية الثانية مفسَّرة في سور البقرة، وقوله‏:‏

‏{‏وإذ تأذَّن‏}‏ معطوفٌ على قوله ‏{‏إذ أنجاكم‏}‏ والمعنى‏:‏ وإذ أعلم ربُّكم ‏{‏لئن شكرتم‏}‏ وحَّدْتم وأطعتم ‏{‏لأزيدنَّكم‏}‏ ممَّا يجب الشُّكر عليه، وهو النِّعمة ‏{‏ولئن كفرتم‏}‏ جحدتم حقِّي وحقَّ نعمتي ‏{‏إنَّ عذابي لشديد‏}‏ تهديدٌ بالعذاب على كفران النِّعمة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 15‏]‏

‏{‏أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ‏(‏9‏)‏ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏10‏)‏ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏11‏)‏ وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ‏(‏12‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ‏(‏13‏)‏ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ‏(‏14‏)‏ وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم‏}‏ يعني‏:‏ من بعد هؤلاء الذين أهلكهم الله ‏{‏لا يعلمهم إلاَّ الله‏}‏ لكثرتهم، ولا يعلم عدد تلك الأمم وتعيينها إلاَّ الله ‏{‏جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم‏}‏ أيدي أنفسهم ‏{‏في أفواههم‏}‏ أَيْ‏:‏ ثقل عليهم مكانهم، فعضُّوا على أصابعهم من شدَّة الغيظ‏.‏

‏{‏قالت رسلهم أفي الله شكٌّ‏}‏ أفي توحيد الله سبحانه شكٌّ‏؟‏ وهذا استفهامٌ معناه الإنكار، أيْ‏:‏ لا شكَّ في ذلك، ثمَّ وصف نفسه بما يدلُّ على وحدانيته، وهو قوله‏:‏ ‏{‏فاطر السموات والأرض يدعوكم‏}‏ إلى طاعته بالرُّسل والكتب ‏{‏ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمَّى‏}‏ لا يعاجلكم بالعقوبة، والمعنى‏:‏ إن لم تجيبوا عوجلتم، وباقي الآية وما بعدها إلى قوله‏:‏

‏{‏ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد‏}‏ ظاهر، ومعنى‏:‏ ‏{‏خاف مقامي‏}‏ معناه‏:‏ خاف مقامه بين يدي، ‏{‏وخاف وعيدِ‏}‏‏:‏ ما أوعدت من العذاب‏.‏

‏{‏واستفتحوا‏}‏ واستنصروا الله سبحانه على قومهم، ففازوا بالنَّصر ‏{‏وخاب كلُّ جَبَّار‏}‏ متكبِّرٍ عن طاعة الله سبحانه ‏{‏عنيدٍ‏}‏ مجانب للحقَّ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16- 20‏]‏

‏{‏مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ ‏(‏16‏)‏ يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ‏(‏17‏)‏ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ ‏(‏18‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ‏(‏19‏)‏ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏من ورائه جهنم‏}‏ أَيْ‏:‏ أمامه جهنَّم فهو يردها ‏{‏ويُسقى من ماء صديد‏}‏ وهو ما يسيل من الجرح مُختلطاً بالدَّم والقيح‏.‏

‏{‏يتجرَّعه‏}‏ يتحسَّاه بالجرع لا بمرَّةٍ لمرارته ‏{‏ولا يكاد يسيغه‏}‏ لا يجيزه في الحلق إلاَّ بعد إبطاءٍ ‏{‏ويأتيه الموت‏}‏ أَيْ‏:‏ أسباب الموت من البلايا التي تصيب الكافر في النَّار ‏{‏من كلِّ مكان‏}‏ من كلِّ شعرةٍ في جسده ‏{‏وما هو بميت‏}‏ موتاً تنقطع معه الحياة ‏{‏ومن ورائه‏}‏ ومن بعد ذلك العذاب ‏{‏عذاب غليظ‏}‏ متَّصل الآلام، ثمَّ ضرب مثلاً لأعمال الكفَّار فقال‏:‏

‏{‏مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف‏}‏ أَيْ‏:‏ شديد هبوب الرِّيح، ومعنى الآية‏:‏ إنَّ كلَّ ما تقرَّب به الكافر إلى الله تعالى فَمُحْبَطٌ غيرُ منتفعٍ به لأنَّهم أشركوا فيها غير الله سبحانه وتعالى، كالرَّماد الذي ذرته الرِّيح وصار هباءً لا يُنتفع به، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏لا يقدرون مما كسبوا على شيء‏}‏ أَيْ‏:‏ لا يجدون ثواب ما عملوا‏.‏ ‏{‏ذلك هو الضلال البعيد‏}‏ يعني‏:‏ ضلال أعمالهم وذهابها، والمعنى‏:‏ ذلك الخسران الكبير‏.‏

‏{‏ألم تر‏}‏ يا محمد ‏{‏أنَّ الله خلق السموات والأرض بالحق‏}‏ أَيْ‏:‏ بقدرته وصنعه وعلمه وإرادته، وكلُّ حقٌّ ‏{‏إن يشأ يذهبكم‏}‏ يُمتكم أيُّها الكفَّار ‏{‏ويأت بخلق جديد‏}‏ خيرٍ منكم وأطوع‏.‏

‏{‏وما ذلك على الله بعزيز‏}‏ بممتنعٍ شديدٍ‏.‏